أنت الآن في مدينة نوغاليس، تقف على سور يفصل المدينة إلى قسمين، في أحد الجانبين مدينة نوغاليس التابعة لولاية أريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الجانب الآخر نوغاليس التابعة لولاية سونورا في المكسيك. سور واحد ربما قد تشعر أنه لا يمثل أي شيء تقريباً، ولكن الحقيقة غير ذلك تماماً.
السور الفاصل بين المدينتين - من موقع Palabranahj
في الولاية الأمريكية سكان يعيشون حياة جيدة نسبياً، تعليم مناسب وانتخابات حرة ومتوسط عمر طويل. بينما في الولاية المكسيكية سكان يعيشون حياة فقيرة مقارنة بنظرائهم في أمريكا، وأوضاعاً سياسية مليئة بالفساد، وانتشاراً للجريمة المنظمة.
اختلاف شاسع في ظروف المعيشة بين مدينتين تتشابهان في عوامل متعددة، أولاً منطقة جغرافية واحدة، ثانياً أصول متشابهة نظراً إلى أن الولاية الأمريكية كانت سابقاً جزءاً من المكسيك مما يعني وجود عديد من الأجداد المشتركين، ثالثاً تشابهات ثقافية في الطعام والموسيقى وغيرها من الملامح. وكل ذلك يطرح تساؤلاً مهماً؛ ما السبب في هذا الاختلاف بين المدينتين؟ ببساطة الفارق الرئيس لا يتعلق بالجغرافيا أو الثقافة، لكنه يرتبط بالمؤسسات.
هذه القصة هي واحدة من الأسس التي بنى عليها العلماء الثلاثة، دارون عجم أوغلو أمريكي من أصل تركي وأستاذ في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وسايمون جونسون أمريكي بريطاني وأستاذ في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وجيمس روبنسون أمريكي بريطاني وأستاذ في جامعة شيكاغو، دراساتهم عن كيفية تشكيل المؤسسات وأثرها على نمو المجتمعات وازدهارها، وبسببها تشاركوا جائزة «نوبل» للعلوم الاقتصادية لعام 2024.
لا شك أن محاولة إجابة عن سؤال مثل: لماذا بعض الدول غنية والأخرى فقيرة؟ يتطلب جهداً كبيراً، لا سيما عندما تكون الفوارق واسعة جداً، فنحن نتحدث عن كون 20% من أغنى دول العالم هي أغنى 30 مرة تقريباً من أفقر 20% من الدول.
ولذلك كانت دراسات العلماء الثلاثة عنصراً مهماً في الإجابة عن هذا السؤال، وهذا ما عبرت عنه اللجنة المسؤولة عن الجائزة في بيانها الصحفي للإعلان عن فوزهم قائلة، «لقد ساعدونا على فهم الاختلافات في الازدهار بين الدول».
من خلال هذه الدراسات تمكن العلماء الثلاثة من إثبات وجود علاقة واضحة بين مؤسسات الدول وتحقيق الازدهار، ونجحوا في تطوير أدوات نظرية يمكن استخدامها لشرح لماذا تستمر الفروقات الواسعة بين المؤسسات وكيف يمكن أن تتغير؟
ولأن إثبات الأمر ليس مهمة سهلة على الإطلاق، اعتمد الفائزون على نهج تجريبي مبتكر، قام في أساسه على دراسة استعمار الأوروبيين لأجزاء كبيرة من العالم، وتحليل الأنظمة السياسية والاقتصادية التي أدخلوها أو اختاروا الاحتفاظ بها بدءاً من القرن الـ16، في محاولة الوصول إلى أدلة واقعية تثبت هذه الفكرة.
انطلق العلماء الثلاثة في بحثهم عن الأدلة بسؤال أساسي: ماذا فعل الاستعمار الأوروبي عندما ذهب لاحتلال مختلف الدول؟ وتكمن قيمة هذا السؤال في أن الطريقة التي أُديرت بها عملية الاستعمار ساعدتهم على فهم ما صارت عليه هذه الدول، وكيف نجح المستعمرون في تغيير المؤسسات القائمة فيها.
قسم المستعمرون هذه الدول إلى نوعين: دول بها كثافة سكانية كبيرة وثروات كثيرة غالباً، ودول بها كثافة سكانية صغيرة في مقابل ثروات محدودة. وهنا اعتمد المستعمرون على أسلوبين للتعامل حسب انتماء كل دولة لواحدة من التقسيمتين المذكورتين.
المؤسسات الاستخراجية
في الدول ذات الكثافة السكانية الكبيرة، أدرك المستعمرون أنه ليس سهلاً الاستنفاع بالدول نفسها كأوطان يعيش فيها المستوطنون الأوروبيون، وأن الفائدة الأكبر تتمثل في استغلال ثرواتها ومواردها الطبيعية. وهنا نشأت المؤسسات الاستخراجية بفكر قصير المدى هدفه الحصول على أقصى فائدة ممكنة من موارد كل دولة، دون النظر إلى تبعات ذلك.
ونظراً لوجود كثافة سكانية كبيرة، وعلى رغم المقاومة الكبيرة من هذه الدول في البداية، فإنه بعد نجاح الاستعمار في السيطرة على المقاومة، حوّل هذه الكثافة السكانية لصالحه، واستغلها كفرصة للحصول على عمالة رخيصة.
بالطبع نتيجة للأوضاع في هذه الدول، انتقل عدد أقل من المستوطنين الأوروبيين إليها، وكي يسيطروا تماماً على كل شيء، وتصبح لهم الكلمة العليا، استولوا على المؤسسات القائمة في هذه الدول، ووظفوا المؤسسات الاستخراجية لصالحهم على حساب بقية السكان، فخلت هذه الدول من الأنظمة العادلة وكانت حقوق السكان الأصليين محدودة.
المستعمرات الاستيطانية
أمّا الدول ذات الكثافة السكانية القليلة التي كانت فقيرة غالباً، فقد استغلها المستعمرون كأوطان يعيشون ويبنون فيها، وانتقل إليها كثير من المستوطنين الأوروبيين.
ولتحقيق هذا الهدف، اتبع المستعمرون نهجاً استيطانياً قائماً على بناء أنظمة شاملة وعادلة تهدف إلى تحقيق الفائدة للجميع على المدى البعيد، وبنوا مؤسسات اقتصادية شجعت المستوطنين على العمل بجد والاستثمار الحقيقي في وطنهم الجديد.
يوضح العلماء الثلاثة أن مدينة نوغاليس ليست استثناء بل هي نمط متكرر في عديد من الدول، ويمكن فهم الاختلافات الحالية بها بالعودة إلى الجذور الاستعمارية في المدينتين، وتفسيرها في ظل فكرة المؤسسات الاستخراجية والمستعمرات الاستيطانية التي توصلوا إليها من الدراسة.
فعندما درس العلماء مدينة نوغاليس بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، وجدوا أن الجزء التابع للمكسيك احتله الإسبان، واستغلوا موارد هذه المنطقة لصالحهم وطبقوا فكر الاستخراج الذي حقق لهم مكاسب على المدى القصير، والآن تعاني نوغاليس المكسيكية الفساد.
بينما الجزء التابع للولايات المتحدة الأمريكية فقد كان أقل ازدهاراً وقتها وأكثر فقراً، مما جعل المستعمرين يطبقون مبدأ المستعمرات الاستيطانية وأنشأوا مؤسسات حققت الازدهار على المدى البعيد. لاحظ أنه في هذه الفترات لم تكن دول المكسيك وأمريكا قد نشأت بعد، لكن كل هذه المناطق كانت جزءاً من الدول المستعمرة.
ولتأكيد ارتباط هذه العلاقة مع الاستعمار دون انحياز لما وصلوا إليه، فقد درس العلماء الثلاثة القرون التي سبقت الاستعمار، ولم يلحظوا وجود العلاقة العكسية بين الازدهار في الماضي والتدهور في حاضر هذه الدول، إذ إن الأجزاء التي كانت أكثر ازدهاراً في العالم ظلت كما هي، وهذا طبعاً قبل قدوم الاستعمار إليها.
إضافة إلى ذلك، عند النظر إلى الأجزاء التي لم تُستعمر في العالم لم يجدوا هذه العلاقة العكسية أيضاً. مما جعل التفسير الذي وصلوا إليه دليلاً عملياً على أثر المؤسسات في ازدهار المجتمعات، وكيف أن المؤسسات التي بُنيت للمدى القصير حققت أهدافاً حالية للاستعمار في مقابل دمار مستقبل هذه الدول، والمؤسسات التي بُنيت للمدى البعيد أدت إلى تكوين أنظمة قوية.
الآن بعد فهم دور المؤسسات في تحقيق الازدهار للمجتمعات، وأن المؤسسات الشمولية التي تهتم بالحقوق الاقتصادية والسياسية تحقق فوائد طويلة الأجل، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما دمنا لم نعد في عصر الدول الاستعمارية، فلماذا لا تقوم النخبة في كل دولة باستبدال النظام الاقتصادي القائم على المؤسسات الاستخراجية إلى فكر المؤسسات الشاملة؟
يفسّر العلماء الثلاثة الأمر بأن هذا التغيير ليس بسيطاً على الإطلاق، نتيجة لوجود مشكلة واضحة في المصداقية بين النخب الحاكمة والجماهير. الجماهير لا تثق في وعود الإصلاح الاقتصادي التي تقدمها النخبة الحاكمة، خصوصاً لأن النظام الجديد سيؤدي إلى خسارة اقتصادية كبيرة للنخبة، فهذه النخبة تهتم بمصالحها فقط كما كان يفعل الاستعمار، والوعود هدفها فقط خداع الجماهير.
من ثَم فإن السبيل الوحيد لتشكيل المؤسسات الجديدة هو تسليم السلطة وإدخال الديمقراطية بالإجبار، وهذا يمكن أن يحدث عبر استغلال الجماهير لقدرتها على الاحتجاج، وشرط الاحتجاجات هنا أن تكون منظمة وينضم إليها أكبر عدد من الأشخاص وتحقق أثرها.
يوضح العلماء الثلاثة أن هذا ما حدث لتحقيق التحول الديمقراطي في أوروبا الغربية في نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20. في بريطانيا مثلاً، وُسع حق المواطنين في الاقتراع على مراحل متعددة، وكل مرحلة سبقتها احتجاجات واسعة النطاق وإضرابات عامة.
وهذا حدث لأن الجماهير لم تصدق وعود الإصلاح التي قدمتها النخب البريطانية لمواجهة هذه الاحتجاجات، مما أجبرها في النهاية على مشاركة السلطة على مضض. في السويد كان الوضع مشابهاً حيث أقُر نظام حق الاقتراع عام 1918 في أعقاب أعمال شغب واسعة النطاق.
أخيراً، كما ذكرت اللجنة في إعلانها، فإن دراسات العلماء الثلاثة ساعدت على فهم جانب مهم في اختلافات الازدهار بين الدول وعلاقة مؤسسات الدولة بذلك، وأكدت أنه لا بديل عن دعم الديمقراطية والمؤسسات الشاملة في كل دولة على رغم صعوبات هذا التحول.